الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بقدر ما تحمله عمليات التقاضي – وفقاً لما تكشفه الأحكام المنشورة للمحاكم واللجان القضائية بكافة اختصاصاتها، وتعدد درجاتها – من معرفة هائلة مستترة، وقدر كبير من البيانات الخام الخاملة، غير المقدرة في كثير من عمليات اتخاذ القرارات في الجوانب الفنية الإجرائية، والنظم التشغيلية، أو في الأعمال التجارية، وبناء الصفقات الاستثمارية وتعزيز حمايتها، وبقدر ما يحمله قرار مجلس الوزراء بالمملكة الصادر بتاريخ:06-02-1442هـ الموافق:23-09-2020م – من وجوب تقيد الجهات الحكومية بالأحكام النهائية، والمبادئ القضائية، وتوفيق ممارساتها الإدارية معها، واستخلاص الممارسات الملغاة، ووضع المؤشرات لتوضيحها، وما اتخذ بشأنها من إجراءات تصحيحية، مع وضع الخطط والحلول لتصحيح الممارسات والإجراءات وعدم الاستمرار على ذات الممارسات والإجراءات الملغاة، وتضمين أدلة العمل والسياسات والإجراءات بما في ذلك النظم الإلكترونية بياناً بالممارسات غير السليمة التي يتعين عدم الوقوع فيها- من نظرة عميقة، وربط واسع، واستحضار بليغ، لتأثيرات عمليات التقاضي ونتائجها في السياسات والإجراءات، فإن التعامل مع عمليات التقاضي بتلك الرحابة لدى المعنيين ما زال غائباً، ومرد ذلك لأسباب عدة يأتي في مقدمتها: ارتباط عمليات التقاضي بعدد من المفاهيم الحائلة دون الاستفادة التطبيقية، وبناء منظومة عمل تبقي عملية الاستبصار دائمة ومستمرة، وفي هذا المقال تناول لبعض من تلك المفاهيم.
إن اعتياد قراءة الأحكام القضائية بحثاً عن نتيجة منطوقها، ومدى كونه لصالح طرف ضد آخر، يضع كثيراً من الإدارات القانونية وأرباب التخصص في مرحلة من التشبع الدلالي، والذي يتسم بعدم الوعي بالنص المقروء، مهما عظم حجمه، أو تعددت تفاصيله، ولذا أصبحت قراءة الأحكام عملية تحدث بسرعة خاطفة، لدرجة أن معنى ما يُقرأ يدخل للذهن، دون وعي كبير بالكلمات نفسها، وما تحمله من حقائق ودلالات، ودون تنبه لكثير من المضامين المواكبة للمعنى، والمتصلة بالإطار المحيط بها، أو بالإجراءات التي لحقت به، وكانت سبب في نتائجه، فعندما يحصل فعل القراءة نفسها لوثيقة معينة، أو شكل معين من النصوص مرارا وتكرارا، يفقد شكل القراءة المعنى، وتبدو الحروف كما لو كانت صفا متراصاً من البناء اللغوي المجرد، أو تنظيما للكلمات لتحقيق الهيكل المحدد لتلك الوثيقة إجرائياً أو قانونياً، وهذه الحالة هي ما يمكن لنا تسميتها بظاهرة التشبع الدلالي في القراءة، الذي يعرضنا للواقع الملموس لأشكال تلك النصوص المعينة، الموضوعة وفقاً لترتيب محدد، ما يعوق تجربة القراءة الفاحصة والعميقة التي تتطلبها أنواع محددة من النصوص، وفي مقدمتها عمليات التقاضي المبثوثة في صكوك الأحكام القضائية.
كما أن انحصار مفهوم عمليات التقاضي لدى كثير من المتخصصين والباحثين في أنها وسيلة للمعالجة، وطريقة لحل المشكلات، بحكم قضائي من المحكمة، هو نوع من المعرفة المحدودة، التي كثيرا ما تؤدي إلى فقدان المرونة العملية، وبالتالي الوقوع في الصلابة الوظيفية، والتي يراد بها أن الأشخاص الذين تعودوا على استخدام أداة ما في ممارسة أعمالهم، أو درجوا على رؤية الآخرين يستخدمونها بطريقة مألوفة جدا، غالبا ما تتكون لديهم موانع ذهنية، تحول دون استخدامهم لتلك الأداة بأسلوب جديد، ولذا من يملك في يده مطرقة، سيرى كل شيء أمام ناظريه على هيئة مسمار، وهذا الحال هو ما ينطبق واقعياً على تناول عمليات التقاضي، ولتفادي النظر لعمليات التقاضي انطلاقا من قاعدة المعرفة المحدودة الراسخة في كثير من الأذهان بشأنها، إلى حقل الرؤية الواسع، فإنه يلزمنا استبعاد التفكير فيها كحقائق منفصلة، أو معالجة لحالة حادثة عابرة؛ لأن الفائدة من تلك النظرة محصورة، لا تعكس ما يتطلبه واقع القطاعات والمهتمين من عدسة تعكس المشهد أمامهم، وتشغل لوحة العرض أمامهم، بخيوط متشابكة من النظريات، ومسائل متقاطعة من الاحتمالات، لتسهل عليهم عملية الجمع بين الحقائق المتعددة، وتمنحهم قدرة على استخراج صورة متكاملة ومقنعة، وتتعاظم لديهم رغبة الترقب للحقائق والمعلومات غير المتوقعة، التي قد تظهر من تحليل عمليات التقاضي، وسبر أغوارها، وتصبح الأذهان أكثر قابلية لالتقاط وفهم المعلومات التي كانت في الغالب غير ملحوظة، أو لا تحظى بقدر من العناية، ودرجة عالية من المبالاة، ولهذا نجد أن قرار مجلس الوزراء أشار إلى جملة من الوسائل المعينة على تحويل النتائج إلى ميدان التطبيق والالتزام الدائم.
إن المرونة الفكرية، والانفتاح على رؤية تلك الأداة (عمليات التقاضي) من منظار جديد، هما شرطان أساسيان لبناء ذهنية حاضرة لالتقاط العلائق ومعرفة الأسباب والوصول للحلول الاستباقية، واكتشاف الحقائق غير المباشرة، والطريقة التي تسمح لنا بعدم الوقوع في فخ النموذج الفكري، الذي يفرض شروطه على ما قد نراه ممكنا، وغير مستبعد بشأن عمليات التقاضي، هي في أن يحمل قارئ الأحكام القضائية نماذج عدة في ذهنه، ويحرص على معالجة أي تأثر بمفاهيم مانعة، ومن البديهي في هذا الإطار أن يظهر التساؤل عن كيفية فهم عمليات التقاضي بعد حدوثها؟ والجواب باستخدام أسلوب اصطلح الخبراء على تسميته بأسلوب عقلنة الأمور بعد حدوثها». فهو أسلوب عملي في النظر إلى الماضي، وإدراك ما ينطوي عليه من قوة، ويكشف عما قد يحمله المستقبل من أخطار، في حال الدعة، والاستمرار في الركون، ومعالجة المظاهر دون أصل الداء، ولذا فالنظر إلى الوراء واستعادة الحوادث الماضية في عمليات التقاضي على شكل قصة، قد يكون عملا مفيدًا، من أجل الاستفادة من التجارب الماضية، لبناء مستقبل أفضل، ولكن التعلم من أمثولات الماضي يفترض اعتماد الصدق، وتقصي حقيقة الأمور التي حدثت، والظروف التي أحاطت بها، والانفتاح على إمكان إعادة النظر في قياس قيمتها وأهميتها، ولهذه المسألة دورها في أسلوب إدارة المؤسسات والكيانات.
إن التأهب لالتقاط المعلومات، وعلل الحوادث، من عمليات التقاضي، والتي قد تفتح الباب لقراءات غير متوقعة، لها قيمة مضاعفة على المدى البعيد، في دقة المعالجات، والظفر بالحلول الصائبة، فرصة دافعة للجهات المستفيدة، لتصميم نظريات ضمنية، في دراسة قضاياها، وفحص أحكامها السابقة، وتصور المواضع الملائمة للاستشهاد بها في المعالجات، والوقوف على العلل الخفية، والأسباب الحقيقية الواقعية، لكثير من التجاوزات، والممارسات الخاطئة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال