الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في صيف 2011، كانت شركة HP تستعد للاستحواذ على شركة البرمجيات البريطانية الناشئة Autonomy، في صفقة تجاوزت قيمتها 11 مليار دولار أمريكي. لكن خلف عناوين الصحف ومظاهر الاحتفاء، كانت تتشكل أزمة غير منظورة ستتحول لاحقًا إلى واحدة من أكثر صفقات الاستحواذ إثارةً للجدل في تاريخ صناعة التقنية. فوفق ما كشفت عنه الوثائق القضائية وتقارير المحاسبة لاحقًا، فإن شركة HP لم تجرِ الفحص المالي والقانوني النافي للجهالة إلا بشكلٍ متعجل للغاية. بل اقتصرت على عدد محدود من الاجتماعات والمكالمات الهاتفية، جرت على مدى ساعات معدودة فقط، دون أي تدقيق في الوضع المالي أو المحاسبي أو القانوني الهيكلي للشركة المستهدفة.
لم تمضِ سنة على اندفاع إدارة HP نحو الاستحواذ دون إجراء فحص قانوني ومالي معمّق، حتى اكتشفت أن الصفقة كانت مبنية على إشكاليات محاسبية غير مدققة، فقد اتضح أن Autonomy لجأت إلى تضخيم إيراداتها عبر معاملات وتسجيل إيرادات غير متحققة، وتقديم معلومات مالية مضللة. ونتيجة لذلك، اضطرت HP إلى شطب أكثر من 8.8 مليار دولار من قيمة الصفقة، أي ما يعادل نحو 80% من إجمالي قيمتها، لتتحول هذه الصفقة إلى عبء محاسبي، وأزمة قانونية، ونقطة سوداء في تاريخ الشركة.
انطلقت حينها المعارك القانونية في المحاكم البريطانية والأمريكية، وتوالت دعاوى المساهمين، وأصبح اسم الصفقة درسًا في كليات القانون وإدارة الأعمال، يُروى تحت عنوان: ‘كيف تخسر المليارات بسبب فحص قانوني سطحي !!
غير بعيد عن قصة HP، وقعت إحدى الشركات السعودية المدرجة في السوق المالية المحلية في تجربة مماثلة، لا تقل أثرًا وإن اختلفت في السياق والمكان. ففي أوائل العقد الماضي، اندفعت الشركة إلى توقيع اتفاقية مبادلة أصول ضخمة مع طرف تجاري محلي، تتضمن الحصول على أصول تشغيلية ومشاريع قيد الإنشاء، مقابل نقل أصول صناعية وعقارية قائمة، إضافة إلى دفعة نقدية قدرها 10 ملايين ريال سعودي.
على الورق، بدت الصفقة فرصة استراتيجية واعدة؛ أصول متنوعة، مشروع جاهز للتشغيل، وقيمة تقديرية للأصول المستلمة تجاوزت 70 مليون ريال. غير أن ما لم تُقدم عليه الشركة قبل التوقيع كان هو الأهم: لم يتم إجراء فحص نافٍ للجهالة قانوني أو مالي للأصول المعروضة. اكتفت الإدارة بالتوقيع، وأجّلت التدقيق لما بعد الاتفاق.
لكن المفاجأة لم تتأخر. فبمجرد أن عُهد إلى مكتب استشاري بإجراء تقييم مستقل – بعد توقيع العقد – جاء التقرير ليُحدث صدمة حقيقية: القيمة العادلة للأصول المستلمة لا تتجاوز 17.3 مليون ريال فقط، مقارنة بما التزمت الشركة بنقله من أصول ونقد يتجاوز 84 مليون ريال. فجوةٌ قيمية هائلة كشفت تقصيرًا جسيمًا في واجب العناية، ودفعت الشركة لمحاولة إلغاء العقد.
إلا أن الطرف المقابل رفض نتائج الفحص، وامتنع عن إعادة الدفعة المقدمة. وهكذا دخلت الشركة في نزاع قضائي استمر لأكثر من 10 سنوات، انتهى بصدور حكم نهائي بإلزام الشركة بتنفيذ العقد كما هو، وتسليم كامل الأصول المتفق عليها دون تعديل.
النتائج المالية كانت كارثية. فقد أظهرت القوائم المالية الرسمية تكبّد الشركة خسائر فادحة تزيد عن 74 مليون ريال، موزعة بين أراضٍ ومنشآت نقلت للبائع، ومبالغ نقدية دُفعت دون مقابل عادل. ارتفعت الخسائر المتراكمة إلى أكثر من 115% من رأس المال، ما أدى إلى تعليق تداول سهم الشركة، وإثارة تحفظات جوهرية من المراجع الخارجي بشأن قدرتها على الاستمرار.
ولم تقف القصة هنا. فبعد سنوات من النزاع، أعلنت الشركة عام 2024 أنها تقدمت بشكوى رسمية إلى هيئة السوق المالية ضد مجلس إدارتها السابق، تطالبهم بالتعويض بمبلغ 100 مليون ريال، متهمةً إياهم بالإخلال بواجباتهم الإدارية، والتسبب في تلك الخسائر الجسيمة نتيجة التسرع في الصفقة دون إجراء الفحص النافي للجهالة.
إن هذه الواقعة الموثقة في القوائم المالية للعام 2024 ، والتي استمرت آثارها أكثر من 14 سنة، تقدم درسًا محليًا واضحًا في أهمية الفحص القانوني والمالي قبل إتمام أي صفقة كبرى.
فالتقصير لا يكلّف فقط خسارة مالية، بل يفتح باب المساءلة القانونية، ويهدد استمرارية الشركات وحقوق المساهمين.
إن النظام والقانون لا يعذر الإهمال، ويُعد إهمال الفحص النافي للجهالة – خاصة في صفقات الاستحواذ وتبادل الأصول – تقصيرًا جوهريًا قد يرقى إلى مسؤولية تقصيرية على أعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين.
فوفقًا للمادة (28) من نظام الشركات السعودي، يكون أعضاء المجلس والمديرون مسؤولين بالتضامن عن تعويض الشركة والمساهمين عن الأضرار الناتجة عن الإهمال أو الخطأ في الإدارة. ويحق للشركة أو لأي مساهم رفع دعوى ضدهم عند تحقق الضرر، كما أن لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية تُلزم المجالس بإدارة المخاطر، وتطبيق أنظمة رقابة داخلية فعالة، وبالذات عند اتخاذ قرارات جوهرية تمس أصول الشركة أو توجهها الاستثماري. بل وتُشدد على أهمية الإفصاح عن التطورات الجوهرية ومخاطر الصفقات، خاصة إذا كانت تتعلق بأطراف ذات علاقة أو مبالغ كبيرة نسبة إلى رأس المال.
إن القانون لا يحمي من يَغفل، والسوق لا يرحم من يتسرّع، لقد علمتنا هذه الأمثلة – سواء في وادي السيليكون أو في السوق السعودي – أن الفحص النافي للجهالة ليس ترفًا إجرائيًا، بل صمام أمان يحفظ حقوق المستثمرين، ويُجنّب الشركات تعثرًا قد يدفع بها إلى الإفلاس أو التعليق أو التقاضي،
ويُوصى كل مستثمر أو جهة حوكمة بالتالي:
1- عدم الدخول في أي صفقة اندماج أو استحواذ دون فحص قانوني ومالي مستقل من جهة متخصصة.
2- إرفاق تقارير الفحص كشرط أساسي لإتمام أي اتفاقية ملزمة، مع تضمين شرط تعليق النفاذ على رضا الأطراف بنتائج الفحص.
3- مساءلة الإدارات المقصّرة التي تقدم على توقيع اتفاقيات دون فحص كافٍ، خاصة في الشركات المدرجة.
4- اعتماد آليات الحوكمة والإفصاح المحكم في جميع مراحل التفاوض، تحقيقًا للشفافية وحمايةً للمساهمين.
هذه القصص ليست حوادث استثنائية، بل إشارات تحذيرية صارخة، تسلّط الضوء على أهمية ما نقوم به كممارسين قانونيين متخصصين في الفحص النافي للجهالة. فالشركات لا تخسر لأن مشاريعها فشلت فحسب، بل قد تنزلق إلى الخسارة بسبب إغفال بندٍ في عقد، أو التغاضي عن إشعار قانوني، أو التسرّع في تصديق عرض دون تحقق أو تدقيق.
إن الوقاية القانونية ليست رفاهية، بل هي ضرورة اقتصادية وأداة حوكمة، وهي – بكل المعايير – أقل كلفة من الندم المؤسسي الذي قد يأتي بعد فوات الأوان.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال