المصانع غير المأهولة (المظلمة):  مستقبل التصنيع 

تشهد البشرية اليوم نقطة تحوّل تاريخية في مسارها الصناعي والاقتصادي، بفعل التقاء تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وتقنيات النانو، وعلوم المواد المتقدمة، في مشهد لا يقل تأثيراً عن اختراع المحرك البخاري في القرن الثامن عشر. وكما قاد ذلك الاختراع الثورة الصناعية الأولى، وجاءت الكهرباء لتطلق الثانية، ثم الحوسبة لتؤسس الثالثة، فإن الموجة الحالية تمثل الثورة الصناعية الرابعة التي تعيد صياغة النشاط الصناعي العالمي وتطلق دورة نمو جديدة مرشحة لتحديد شكل الاقتصاد لعقود مقبلة. هذه الثورة لم تعد احتمالاً نظرياً أو حلماً بعيد المنال، بل واقع تتسابق الدول على استثماره.

الفارق الجوهري هذه المرة أن المعرفة التقنية لم تعد حكراً على نخبة محدودة، بل أصبحت متاحة للمبرمجين والمبتكرين ورواد الأعمال في شتى أنحاء العالم. الولايات المتحدة تستثمر مئات المليارات سنوياً في الذكاء الاصطناعي والروبوتات، مستفيدة من سيطرة شركات التكنولوجيا العملاقة على براءات الاختراع والمنصات التقنية، فيما تعتمد الصين على تمويل حكومي ضخم وخطط استراتيجية طويلة المدى لتعزيز قدرتها التنافسية ودمج الذكاء الاصطناعي في كل مراحل الإنتاج، أما أوروبا ورغم تاريخها العريق في الصناعة، فتواجه تحديات في مواكبة هذا السباق نتيجة ضعف الاستثمارات وتشتت السياسات بين دول الاتحاد.

في قلب هذه التحولات يبرز مفهوم  المصنع غير المأهول “المصنع المظلم” كأحد أكثر الابتكارات إثارة في ميدان التصنيع الذكي، وهو مصنع مؤتمت بالكامل يعمل دون أي تدخل بشري مباشر، إذ تتولى الروبوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي وشبكات إنترنت الأشياء إدارة كافة العمليات الإنتاجية على مدار الساعة، في بيئة لا تحتاج أي تجهيزات بشرية. هذه المصانع تمثل ذروة التكامل بين تقنيات العصر، فهي تعتمد على روبوتات صناعية متقدمة قادرة على أداء مهام دقيقة للغاية، وتحليلات بيانات لحظية للتنبؤ بالأعطال وتحسين الكفاءة، وأجهزة استشعار متطورة لقياس جودة الإنتاج في الوقت الفعلي، إضافة إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنتاج قطع مخصصة دون الحاجة إلى مخزون ضخم، وتقنية البلوك تشين لتأمين سلاسل الإمداد وضمان الشفافية ومنع التزييف. مزايا هذه المصانع متعددة، من الإنتاج المستمر على مدار الساعة، إلى خفض التكاليف التشغيلية بتقليل الاعتماد على العمالة البشرية، وتحسين الجودة عبر أنظمة تفتيش ذكية، وتوفير بيئة عمل أكثر أماناً بإزالة العنصر البشري من البيئات الخطرة، فضلاً عن تعزيز الاستدامة البيئية من خلال إدارة أكثر كفاءة للطاقة والموارد.

لكن هذا النموذج الطموح لا يخلو من التحديات، فالتكاليف الأولية المرتفعة تشكل حاجزاً أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما تتطلب هذه المنشآت كوادر بشرية عالية التأهيل لتصميم الأنظمة وتشغيلها وصيانتها، إلى جانب المخاوف الاجتماعية من فقدان ملايين الوظائف التقليدية، وهو ما يفرض الحاجة إلى برامج لإعادة تأهيل العمالة. كذلك، فإن الاعتماد الكبير على البنية التحتية الرقمية يفتح الباب أمام مخاطر الأمن السيبراني، وهو ما يستدعي وضع استراتيجيات حماية متقدمة. التجارب العالمية توضح أن الأتمتة الكاملة لم تعد ضرباً من الخيال؛ فمصنع سيمنز في ألمانيا ينتج لوحات التحكم الكهربائية دون تدخل بشري، وفوكسكون في الصين استبدلت عشرات الآلاف من العمال بروبوتات صناعية، بينما تعتمد تسلا في الولايات المتحدة على خطوط إنتاج شبه مستقلة تدار بتحليلات فورية تعتمد على الذكاء الاصطناعي.

ومع انتشار شبكات الجيل الخامس، يتوقع أن تتسارع وتيرة نقل البيانات بين مكونات المصانع، مما يتيح تحكماً أدق ومرونة أكبر، وهو ما سيمهد الطريق لتوسيع استخدام المصانع المظلمة في قطاعات جديدة مثل الصناعات الدوائية والغذائية، حيث تتطلب الجودة والدقة مستويات استثنائية. في هذا السياق، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب يمتلك فرصة ذهبية للدخول إلى هذا المضمار من أوسع أبوابه، مدعومة برؤية السعودية 2030 التي جعلت التحول الصناعي والابتكار في قلب استراتيجيتها لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، إضافة إلى بنية تحتية متطورة تشمل مناطق صناعية حديثة وموانئ ومطارات متصلة بالأسواق العالمية، واستثمارات ضخمة في التكنولوجيا عبر صناديق كبرى مثل صندوق الاستثمارات العامة، فضلاً عن موقع جغرافي استراتيجي يجعلها مركزاً لوجستياً محورياً بين قارات العالم.

ولكي تحقق المملكة قفزة نوعية في هذا المجال، فإن خطوات استراتيجية تبدو ضرورية، من بينها إنشاء مناطق صناعية ذكية مزودة بشبكات 5G ومراكز بيانات متقدمة، وتقديم حوافز ضريبية وتمويلية لتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في تقنيات الصناعة الرابعة ، وإطلاق برامج وطنية لتأهيل الكفاءات في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتات والهندسة المتقدمة، وتعزيز الشراكات الدولية لنقل المعرفة وتوطين التقنيات، إلى جانب تطوير تشريعات متقدمة تنظم الأمن السيبراني وتحمي البيانات الصناعية. الأثر المتوقع لهذه الخطوات كبير، فهو يشمل زيادة القدرة التصديرية للمنتجات السعودية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الاستراتيجية، وخلق وظائف نوعية جديدة في التصميم والبرمجة والتحليل بدلاً من الوظائف اليدوية التقليدية، إلى جانب تعزيز الاستدامة البيئية عبر تقنيات تقلل الهدر والانبعاثات.

إن المصانع المظلمة لم تعد حلماً يلوح في الأفق، بل واقعاً يتشكل بسرعة في الدول المتقدمة، والمملكة  أمام فرصة تاريخية لتجاوز مراحل التطور الصناعي التقليدي والقفز مباشرة إلى قمة الابتكار، لكن النجاح لن يتحقق فقط بالاستثمار في التكنولوجيا، بل يتطلب رؤية متكاملة تشمل تطوير الكفاءات البشرية، وتحديث التشريعات، وضمان توازن بين التقدم الصناعي والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. وإذا استطاعت المملكة أن تستثمر هذه الثورة في بناء منظومة صناعية ذكية ومستدامة، فإنها لن تكون مجرد مستهلك للتقنية، بل صانعة لها، وقوة صناعية عالمية لعقود مقبلة.