الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم تعد التنمية في عالم اليوم مجرّد معادلة كمية ترتكز على الناتج المحلي والاستثمار الرأسمالي، بل أضحت منظومة معقّدة من التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية، تتطلب توازنًا دقيقًا بين الكفاءة والعدالة، وبين النمو والتوزيع، وبين الحوافز الفردية والصالح العام. وفي هذا السياق، يظهر القطاع غير الربحي بوصفه طرفًا ثالثًا حاسمًا في معادلة التنمية، إلى جانب الدولة والسوق، يتميّز بمرونة مؤسسية، واستجابة محلية، ودافعية قيمية، تجعله مؤهلًا للقيام بأدوار يعجز عنها غيره من القطاعات بالكفاءة نفسها.
يسهم القطاع غير الربحي في سد الفجوات التي تتركها آليات السوق، سواء في إعادة توزيع الموارد، أو رعاية الفئات الهشّة، أو معالجة القضايا التي لا تحتمل منطق العرض والطلب. ففي حين يركّز السوق على الربحية والكفاءة، وتنشغل الدولة بالوظائف السيادية والخدمية، يعمل القطاع غير الربحي على تثبيت البعد الإنساني والاجتماعي في منظومة التنمية، ويعيد الاعتبار للمجال العام بوصفه ساحة للتكافل والمشاركة.
في المنظور الإسلامي، تُعدّ الوظائف غير الربحية جزءًا أصيلًا من هندسة الاقتصاد، لا مجرد امتداد أخلاقي أو إضافة طارئة. فالزكاة، والوقف، والعمل الخيري، تتكامل مع بنية السوق في تحقيق الغنى والعدل، بما يحول دون انحراف النمو عن مقاصده الاجتماعية. وتؤدي إعادة التوزيع هنا وظيفة دائمة لحفظ التوازن الاقتصادي، ومنع تركّز الثروة في يد فئة محدودة، وفق ما تؤيده التجارب التاريخية وأدبيات التنمية الحديثة
من بين الأدوار البارزة للقطاع غير الربحي بناء رأس المال الاجتماعي، بما يشمله من شبكات الثقة، والمشاركة الطوعية، والتبرعات المجتمعية، والإدارة الأهلية. كل هذه الممارسات تخلق بيئة تعاونية تعزّز من فعالية التفاعل المؤسسي، وتُمهّد الطريق لأي عملية تنموية ناجحة. وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن تآكل الثقة المجتمعية يؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعاملات، وتباطؤ وتيرة الاستثمار، وزيادة احتمالات النزاع، ما ينعكس سلبًا على كفاءة الاقتصاد ومسار التنمية.
كما يُعدّ القطاع غير الربحي أداة فعالة في تحقيق العدالة المكانية والتنمية المناطقية، بفضل مرونته في الوصول إلى المجتمعات الطرفية، واستثماره في حلول محلية منبثقة من واقع البيئة الاجتماعية. وتكمن أهميته في كونه شريكًا تنسيقيًا يُكمل دور الدولة دون أن يثقل كاهلها، ويُسهم في تعزيز العدالة التوزيعية من خلال الشراكة المجتمعية.
وقد منحت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 هذا القطاع زخمًا جديدًا، بتوسيع نطاق مساهمته في الناتج المحلي، وتكريسه شريكًا رئيسًا في تحقيق التحول الوطني، وتعزيز رأس المال الاجتماعي، وبناء منظومة تنموية أكثر شمولًا وتنوعًا. ويعكس هذا التوجه وعيًا متقدمًا بأن التنمية عملية تشاركية لا تحتكرها الدولة، بل تتطلب تفعيل الطاقات المجتمعية، وتكامل الجهود بين القطاعات الثلاثة.
إنَّ القطاع غير الربحي يشكّل أحد أعمدة معادلة التنمية، بما يتضمنه من إمكانات تصحيحية وتكاملية وبنائية. وتفعيل دوره لا يرتبط فقط بالتمكين المالي أو التنظيمي، بل يتطلب إعادة صياغة الثقافة التنموية لتغدو أكثر إنصافًا، وأشد قربًا من الإنسان، وأكثر انسجامًا مع مقاصد العدالة التي طالما شكّلت جوهر الرؤية الإسلامية للتنمية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال