الفصل الأخير من قصة الفصول الثلاثة

بعد أسابيع قليلة تطوي آخر الجامعات السعودية قصتها مع نظام الفصول الثلاثة وتعود لتكمل عقد الجامعات السعودية العائدات إلى نظام الفصلين الدراسيين. وبهذا تنتهي إحدى أجرأ المبادرات التعليمية التي مرت على تاريخ التعليم في المملكة. وبغض النظر عن الآراء الشخصية حول هذا النظام بشكل عام، فإن التحديات المتعلقة بالنظام البيئي (الإيكولوجي) وتداخل أصحاب المصلحة كانت أحد أبرز أسباب عدم الاستمرار في هذا النظام حسب رأيي المتواضع.

وبحكم عملي في مجال التعليم الجامعي أود أن استعرض بعض التحديات التي واجهت هذا النظام من الناحية التشغيلية ولم تمكنه من استكمال دورة كاملة ليتم تقييم مخرجات هذا النظام بشكل عادل. فكما يعلم القارئ فإن جل الجامعات السعودية تبنت هذا النظام لمدة عام دراسي واحد فقط ثم تراجعت عنه لتعود إلى نظام الفصلين لتبدأ بعد ذلك قصة التصحيح في مسيرة الطلاب وخططهم الدراسية. ولعل الجامعات هنا استفادت من مبدأ التكلفة الغارقة في الإدارة (إن التحيز للاستمرار في مشروع معين رغم ظهور مؤشرات عدم قدرته على النجاح يؤدي إلى زيادة الخسائر وليس انقاذ ما تم استثماره في هذا المشروع) أو كما قال الكاتب الروسي دوستويفسكي: “إذا ركبت القطار الخطأ حاول أن تنزل في أول محطة، لأنه كلما زادت المسافة زادت تكلفة العودة”.

ولكن السؤال الأهم لماذا لم تنجح تجربة الفصول الثلاثة رغم استفاضة دراسة هذا القرار؟

ما أحاول إيجاده هنا هو الدروس المستفادة من هذه المبادرة الجريئة – حسب ما توفر لدي من معلومات – لنتمكن من التعلم ونقل التجربة وتفادي التحديات في المبادرات القادمة.

أولاً: الفلسفة التعليمية، تعتمد الفلسفة التعليمية في نظام الفصلين على طرح مقررات أقل والتعمق في شرح هذه المقررات للطلاب بينما تعتمد الفلسفة التعليمية في نظام الفصول الثلاثة على طرح جرعات متنوعة قصيرة للطلاب تغطي موضوعات أكثر دون تعمق كبير. ولكن ما حصل في الغالب لم يكن كذلك، فقد تم تحويل مقررات الفصلين إلى ثلاثة فصول وزيادة عدد الساعات الدراسية في الأسبوع ليتسنى لهم إتمام مفردات المقررات.

ثانيا: التوقيت بعد جائحة كورونا، لقد كان لجائحة كورونا أثر كبير في إرباك العديد من القطاعات – رغم النجاح العظيم الذي كانت ريادة المملكة فيه أنموذجاً يحتذي به العالم – سواءً الصناعية والخدمية منها. وما أن بدأ التعليم في التعافي والعودة إلى طبيعته أتت هذه المبادرة لتقوم بعملية تغيير جذري في نظام التعليم الجامعي.

ثالثا: التهيئة والتنفيذ، لعل مشاركة المنفذين لهذه المبادرة في الجامعات لم تكن بالصورة المثلى فقد رأى كثير من أعضاء هيئة التدريس أن هذه المبادرة ليست إلا زيادة العبء التدريسي عليهم والذي تسبب في الإرهاق الأكاديمي على الطالب وعضو هيئة التدريس دون مردود إضافي حقيقي لهم. ولا يستغرب حينئذ يكون له أثر سلبي في عملية التحصيل الدراسي.

رابعا: الإجازات، لعل ضعف عملية التواصل في شرح تأثير نظام الفصول الثلاثة على تقليص الإجازات وزيادة أيام التعليم الفعلي والاستثمار الأمثل للموارد أدى إلى ردة فعل عكسية لدى المجتمع بشكل عام وتحميل نظام الفصول الثلاثة أعباء لم يكم بحاجة لها.

خامساً: عدم القدرة على تحقيق الأهداف الرئيسية للمبادرة، كان من ضمن الأهداف الرئيسية للمبادرة تحسين في العملية التعليمية وزيادة كفاءة الإنفاق وتسريع تخريج الطلاب. ولعل المؤشرات الأولية للجامعات كانت تشير إلى ضعف في تحقيق هذه الأهداف.

سادسا: طبيعة بعض المقررات والأنشطة البحثية التدريب الميداني ومشاريع التخرج، لعل هذا التحدي يعد من التحديات التشغيلية الحقيقية التي واجهت الجامعات عند تنفيذ هذه المبادرة فإن طبيعة هذه المقررات يستغرق وقتاً طويلاً ولم يتمكن نظام الثلاثة فصول من احتوائها.

سابعاً: الأثر الاقتصادي(أخيراً وليس آخراً)، بالرغم من أن عدد الأيام الدراسية الفعلية بين نظام الفصول الثلاثة و نظام الفصلين متقارب إلى حد كبير فلن يكون الأثر الاقتصادي ظاهراً بشكل واضح على الفترة الزمنية ولكن سيكون موزعاً على تفاصيل تشغيلية تشمل ساعات العمل واستهلاك الموارد والاستعانة بأعضاء هيئة تدريس إضافيين لسد العجز في الساعات الأكاديمية. ولتقييم الأثر الاقتصادي بشكل أدق تحتاج الجامعات الرفع بتقارير توضح الفجوة بين النظامين فيما يتعلق بالتكاليف التشغيلية السنوية، التكلفة لكل طالب، التوفير أو الزيادة في الإنفاق، مؤشرات الكفاءة التشغيلية، ومعدل الإنفاق التشغيلي للخدمات الجامعية و أخيراً التأثير على الميزانيات والموازنات المالية.

ولا يكتمل الحديث عن الأثر الاقتصادي بالحديث حول التكلفة دون الإشارة إلى آثارها على سوق العمل والمساهمة في الناتج المحلي (المباشر وغير المباشر) وكذلك الكفاءة التشغيلية للجامعات وبالتحديد معدل الإكمال الظاهري.

وفي الختام، انتهت مرحلة في تاريخ التعليم الجامعي السعودي ويجب علينا جميعاً أن نتعلم منها ولعل لدى وزارة التعليم الكثير من التقارير والإحصاءات حول هذا الموضوع. فكلنا نتطلع بشغف حول ما سوف ترويه لنا وزارة التعليم. وكانت هذه فقط قراءة من داخل الجامعات السعودية لمحاولة فهم الماضي لنكيف الحاضر لنبني مستقبلاً أكثر إشراقاً.