الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في زمن تتقاطع فيه الحاجة إلى النمو مع ضرورة حماية الموارد، لم يعد الاقتصاد الأخضر في المملكة العربية السعودية خيارًا بيئيًا مكمّلًا، بل تحوّل إلى مسار سيادي يعيد تصميم النموذج التنموي الوطني من الداخل. هذا التحول لم يكن مجرد استجابة للتغيرات المناخية، بل جاء نتيجة وعي داخلي متراكم بأن الاستدامة اليوم تمثل حجر الزاوية للسيادة الاقتصادية والاجتماعية، وأداة متقدمة لإرساء أمن تنموي طويل الأمد.
منذ إطلاق مبادرة السعودية الخضراء في مارس 2021 برعاية سمو ولي العهد، دشنت المملكة أكثر من 86 برنامجًا بيئيًا تغطي مجالات الطاقة النظيفة، وإعادة التدوير، والتشجير، واستصلاح الأراضي، بإجمالي استثمارات تجاوزت 705 مليارات ريال حتى عام 2024، وفق بيانات وزارة البيئة والمياه والزراعة. وقد أعلنت المملكة عن هدف طموح يتمثل في زراعة 10 مليارات شجرة بحلول 2030، واستصلاح 74 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، مع الإشارة إلى زراعة نحو 44 مليون شجرة حتى عام 2023.
في قطاع الطاقة، ارتفعت القدرة الإنتاجية من مصادر متجددة إلى 6.1 جيجاوات بحلول عام 2024، ضمن خطة للوصول إلى 130 جيجاوات بحلول 2030. ويُقدّر حجم الاستثمارات المطلوبة لإضافة 15 جيجاوات من الطاقة المتجددة بنحو 8.3 مليار دولار، بحسب تقديرات وزارة الطاقة وصندوق الاستثمارات العامة، وتشمل هذه المشاريع محطات كبرى للطاقة الشمسية وطاقة الرياح في مناطق متعددة. ومن بين المشاريع الرائدة، يبرز مشروع نيوم للهيدروجين الأخضر، الذي يستهدف إنتاج 600 طن من الهيدروجين الأخضر يوميًا بحلول عام 2026، كأكبر مشروع من نوعه عالميًا، مع تركيز كبير على التصدير.
كما تبنت المملكة نموذج الاقتصاد الدائري للكربون، الذي أُعلن عنه خلال رئاستها لمجموعة العشرين في عام 2020، ويهدف إلى تقليل، وإعادة استخدام، وتدوير، وإزالة الكربون، مع التزام واضح بخفض 278 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا بحلول عام 2030، وتحقيق الحياد الكربوني الكامل بحلول عام 2060.
وفي جانب البيانات والتقنيات، تقوم الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) بدور متقدم في تطوير أدوات تتبع وتحليل الأثر البيئي، ويجري استخدام تقنيات مثل سلاسل الكتل وإنترنت الأشياء ضمن مشاريع تجريبية، بينما أُطلقت الأكاديمية الوطنية للبيئة في 2024 لتأهيل الكفاءات الوطنية في مجالات البيئة والاستدامة.
أما على الصعيد المالي، فقد أصدر صندوق الاستثمارات العامة أول سند أخضر في أكتوبر 2022 بقيمة 3 مليار دولار، تلاه إصدار ثانٍ في فبراير 2023 بقيمة 5.5 مليار دولار، ليصل إجمالي الإصدارات إلى 8.5 مليار دولار. ووفقًا لتقرير الصندوق الصادر في 2024، تم تخصيص ما يقارب 5.2 مليار دولار من هذه الإصدارات لتمويل أكثر من 70 مشروعًا بيئيًا مؤهلاً، ضمن إطار عمل التمويل الأخضر المعتمد. وفي أوائل عام 2025، أطلق الصندوق إصدارًا جديدًا مقومًا باليورو بقيمة 1.5 مليار يورو، في خطوة تُعد الأولى من نوعها على مستوى أدوات الدين الخضراء السعودية بالعملة الأوروبية، ما يعكس اتساع نطاق أدوات التمويل المستدام وتعميق حضور المملكة في الأسواق العالمية.
ورغم هذا الزخم السيادي، لا يمكن تحقيق التحول البيئي الشامل دون تمكين القطاع الخاص كشريك استراتيجي في بناء الاقتصاد الأخضر. فدوره لا يقتصر على تمويل المشروعات، بل يمتد إلى قيادة الابتكار، توطين التقنيات، وتوسيع سلاسل الإمداد المستدامة. شركات الطاقة، النقل، الغذاء، التمويل، والصناعة مطالبة بتضمين الحوكمة البيئية (ESG) في ممارساتها، وتقديم تقارير شفافة تعكس التزامها البيئي والاجتماعي. كما أن المؤسسات المالية السعودية، بما فيها البنوك وشركات إدارة الأصول، تملك فرصة كبيرة لتقديم أدوات استثمارية خضراء مثل السندات والصناديق المستدامة، وربطها بأداء الشركات البيئي. ويمثل تمكين المنشآت الصغيرة والمتوسطة في القطاعات الخضراء خطوة محورية لتوليد فرص اقتصادية نوعية، خصوصًا في المناطق التي تعاني من فجوات تنموية.
ومع ذلك، تبرز تحديات جوهرية تهدد تحقيق التوازن العادل بين المناطق. فبحسب تقديرات غير رسمية، فإن ما يقارب 78% من المشاريع البيئية الكبرى تتركز في ثلاث مناطق فقط، هي الرياض والمنطقة الشرقية ومنطقة نيوم، ما يفرض الحاجة لإعادة توزيع الحوافز البيئية نحو المناطق ذات الأولوية التنموية، وخصوصًا المناطق التي تعاني من ضعف في البنية التحتية وفرص العمل. كما أن نسبة مشاركة المرأة، التي بلغت 36.3% من إجمالي القوى العاملة، لم تنعكس بعد على التمكين البيئي ومشروعات الطاقة المتجددة بشكل واسع. وفي الوقت نفسه، ما تزال سلاسل الإمداد البيئي تعتمد بدرجة كبيرة على المكونات المستوردة، مما يعوق جهود التوطين، ويُضعف من قدرة المملكة على التحكم الكامل في دورة الإنتاج الأخضر.
من جهة أخرى، يشير تقرير رسمي إلى أن المملكة تهدر ما يقارب 33% من إجمالي الطعام سنويًا، ما يترتب عليه ضغوط إضافية على المياه والطاقة والبنية التحتية. ويتطلب هذا النمط الاستهلاكي إطلاق برامج وطنية للتحول السلوكي البيئي، تستهدف المؤسسات التعليمية، والأسواق، والمنازل، وتدعم أنماط استهلاك مستدامة على المدى الطويل.
وفي ضوء هذه التحولات، يمكن طرح عدد من الأفكار والمقترحات لتعزيز المنظومة البيئية والتنموية معًا، ومنها إنشاء صندوق الاقتصاد الأخضر ككيان مستقل يُعنى بتمويل المشاريع البيئية ذات الأثر القابل للقياس، ضمن إطار حوكمة واضحة، وضمان شفافية ربط التمويل بالأثر. كما يُقترح تطوير مؤشر وطني لقياس الأثر البيئي وربطه بالحوافز والمخصصات الحكومية، إلى جانب إطلاق منتدى خليجي للتصنيف الأخضر لتوحيد المعايير البيئية على المستوى الإقليمي، وتأسيس منصة خليجية موحدة لسلاسل الإمداد البيئية تدعم نقل التقنية وتعزز التكامل الاقتصادي الأخضر. كما أن إنشاء مجلس اقتصادي بيئي أعلى يعكس تكامل السياسات الاقتصادية والبيئية سيكون خطوة استراتيجية لتعزيز السيادة التنموية.
وإلى جانب ذلك، من المهم إدراج التربية البيئية الاقتصادية ضمن المناهج الجامعية والتقنية، بحيث يُهيأ الجيل القادم للانخراط في بيئة إنتاجية مستدامة. كما أن تطوير آليات مشتريات حكومية خضراء تُفضّل المنتجات والخدمات المستدامة يمكن أن يحفز السوق المحلي نحو التحول البيئي. وفي الوقت ذاته، فإن تأسيس نظام وطني لتصنيف الشركات بيئيًا وربط هذا التصنيف بإعفاءات أو تسهيلات حكومية سيخلق حافزًا قويًا للقطاع الخاص. كما ينبغي تعزيز تمكين المرأة والمجتمعات الريفية من خلال برامج مهنية خضراء موجهة، لا سيما في مجالات الزراعة المستدامة والطاقة الشمسية وإعادة التدوير. وأخيرًا، فإن بناء قاعدة بيانات وطنية مفتوحة للبيانات البيئية سيعزز من الشفافية ويدعم متخذي القرار والباحثين والمستثمرين.
إن الاقتصاد الأخضر السعودي لم يعد مجرد مشروع طموح، بل أصبح أداة سيادية لإعادة بناء النموذج التنموي، وتأكيد السيادة الإنتاجية، وتحقيق العدالة البيئية، في توازن مدروس بين البيئة والنمو، وبين الرؤية الوطنية والفرص العالمية.
فالأمر لم يعد يتعلق بعدد الاتفاقيات أو وهج الصور التي تلتقطها عدسات الإعلام لإثبات الحضور، بل بمدى التزامنا – كمجتمع ومؤسسات – بتفعيل تلك الاتفاقيات وتحويلها إلى واقع. فالدولة قد وضعت الأساس، وأطلقت المبادرات، واستثمرت في أدوات التحول الأخضر بجدّية استراتيجية لا تخطئها العين. والمطلوب اليوم هو أن تواكب هذه الجهود إرادة تنفيذية من كافة الأطراف، تترجم الطموحات البيئية إلى ممارسات اقتصادية وإنتاجية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال