الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أثار المنشور الأخير للرئيس الأمريكي دونالد ترمب على منصة “تروث سوشال”، والذي وصف فيه نفط بحر الشمال بأنه “كنز دفين” للمملكة المتحدة، جدلاً واسعاً بعد أن كتب:
“إن الضرائب مرتفعة للغاية لدرجة أنه لا معنى للاستثمار هناك. لقد أوصلوا رسالة لشركات النفط مفادها: لا نريدكم هنا”، داعياً بريطانيا إلى تحفيز شركات الحفر سريعاً، مشيراً إلى أن ثروة هائلة يمكن أن تُستخرج وأن تكاليف الطاقة يمكن أن تنخفض للمواطنين.
هذا التصريح فجّر نقاشات واسعة. فريق أيّد دعوة ترمب لإحياء عمليات الحفر، بينما تساءل آخرون عن مدى وجود احتياطيات مجدية، وعن ما إذا كانت الهياكل الحالية للملكية والعوائد تعود بالنفع على الاقتصاد البريطاني، وما إذا كان إنتاج المزيد من النفط سيؤثر فعلاً على أسعار المستهلكين. جوهر النقاش ليس سياسياً بقدر ما هو اقتصادي:
هل ما زال نفط بحر الشمال قادراً على تقديم قيمة وطنية طويلة الأمد؟ هل هناك إمكانات اقتصادية غير مستغلة أم انها فرصة وطنية ضائعة أو كنز اقتصادي مهمل؟
هل ما زال هناك نفط يمكن استخراجه في بحر الشمال؟
نعم، لكن ذروة الإنتاج أصبحت خلفنا منذ زمن. وفقاً لـ “هيئة انتقال بحر الشمال” البريطانية، يتراوح حجم الاحتياطيات القابلة للاستخراج بين 5 و 9 مليارات برميل. وللمقارنة، كان الإنتاج اليومي يتجاوز 4.5 مليون برميل في اليوم عام 1999، بينما انخفض إلى أقل من 1.2 مليون برميل في اليوم عام 2023.
كما أن معظم الحقول المتبقية تقع في مناطق أكثر تعقيداً تقنياً وأعلى تكلفة إنتاجية. المشاريع الجديدة غالباً ما تكون في حقول حدودية أو في المياه العميقة، ما يجعل جدواها الاقتصادية شديدة الحساسية تجاه أسعار النفط والضرائب والمخاطر الرأسمالية.
هل يستطيع نفط بحر الشمال الصمود عند اسعار النفط الحالية؟
تحتاج بريطانيا إلى إطار اقتصادي متماسك يأخذ في الاعتبار التكلفة العالية جداً لاستخراج نفط بحر الشمال، خاصة في الحقول العميقة. تتراوح تكاليف الإنتاج في بحر الشمال بين 40 و 60 دولاراً للبرميل، وهو أعلى بكثير من تكاليف إنتاج النفط من الحقول البحرية في غرب إفريقيا (20 إلى 30 دولاراً للبرميل)، وأعلى بكثير من تكاليف الإنتاج في الحقول البحرية من الخليج العربي.
عند مستويات اسعار النفط الحالية عند نحو 70 دولاراً للبرميل، تصبح العديد من هذه المشاريع غير مجدية اقتصادياً. هذا الفارق الكبير في التكاليف يعني أن تطوير البراميل المتبقية يجب أن يقتصر على الأكثر جدوى تجارية، مع إعادة استثمار العوائد في التنمية الاقتصادية طويلة الأمد. الهدف ليس مجرد استخراج كل ما تبقى من النفط، بل ضمان أن يحقق كل برميل أقصى قيمة اقتصادية.
نماذج الملكية والعوائد
تعمل المملكة المتحدة بنظام الامتيازات، حيث تبقى ملكية النفط والغاز بيد الدولة (التاج البريطاني) بينما تُمنح حقوق التطوير لشركات النفط العالمية التي تدفع ضريبة أرباح تصل إلى %35 إضافة إلى رسوم التراخيص وتكاليف تفكيك المنشآت.
بينما تبنت دولة مثل النرويج والتي تشترك مع بريطانيا بحدود بحرية في بحر الشمال، نموذجاً هجيناً يتيح مشاركة الدولة المباشرة عبر شركة “إكوينور” النرويجية المملوكة للدولة والمشاريع المشتركة. هذا النموذج يضمن احتفاظ الدولة بحصة كبيرة من الأرباح، حيث تذهب هذه العوائد إلى “صندوق الثروة السيادي النرويجي” الذي تبلغ قيمته اليوم نحو 1.6 تريليون دولار. وقد مكّن هذا النهج الدولة من إعادة استثمار العائدات في الخدمات العامة والبنية التحتية.
وبالتالي الوضع في بريطانيا يتلخص في عمل شركات دولية كبرى في حقول بحر الشمال، بينما النرويج تدير عملياتها عبر شركة محلية وطنية، ما يعزز قدرة الدولة على تعظيم الفوائد الاقتصادية من مواردها النفطية.
هل الاحتياطيات المتبقية مجدية اقتصادياً؟
في بعض الحالات نعم، لكن ليس على نطاق واسع. ارتفاع أسعار النفط قد يجعل بعض الحقول البحرية مربحة مؤقتاً، لكن الجدوى طويلة الأجل ترتبط بتكاليف الاستثمار، ومعدلات التراجع في الإنتاج، والعوائد المالية للدولة. كما أن التزامات تفكيك المنشآت والتقيد بالمعايير البيئية تزداد كلفة بمرور الوقت.
إعطاء حوافز غير مدروسة لعمليات حفر باهظة التكلفة قد يرفع الإنتاج مؤقتاً، لكنه لن يحقق مكاسب وطنية مستدامة ما لم يُدرج ضمن إطار اقتصادي شامل.
هل زيادة الحفر ستخفض أسعار الطاقة للمستهلكين؟
ليس بشكل مباشر. النفط والغاز المنتج في بحر الشمال يباع في الأسواق العالمية، حيث تحدد الأسعار وفقاً للعرض والطلب العالميين. حتى النفط المنتج محلياً قد يُصدَّر أو يُكرر وفق ظروف السوق. وبالتالي، فإن زيادة الإنتاج البريطاني لا تعني تلقائياً انخفاض فواتير الطاقة للمستهلكين.
ومع ذلك، فإن تعزيز الإنتاج المحلي قد يحسّن أمن الطاقة، ويقلل الاعتماد على الواردات، ويحسّن الميزان التجاري، وهي فوائد حقيقية لكن يجب النظر إليها ضمن استراتيجية وطنية أشمل للطاقة والاقتصاد.
فرصة لتحويل اقتصادي هيكلي
السؤال الأهم ليس ما إذا كان يجب الحفر أكثر، بل كيف يمكن إدارة الموارد المتبقية بما يخدم الاقتصاد على المدى الطويل؟. ما زالت هناك فرصة لاستخدام احتياطيات بحر الشمال المتبقية كجزء من تحول اقتصادي هيكلي عبر:
– إنشاء صندوق سيادي للطاقة على غرار النموذج النرويجي
– ربط تطوير الحقول الجديدة بمؤشرات واضحة للعائدات المالية
– التركيز على المشاريع الأعلى كفاءة والأكثر جدوى تجارية
– توجيه عائدات الطاقة نحو دعم السياسات الصناعية المحلية
تحتاج المملكة المتحدة إلى استراتيجية اقتصادية واضحة تضمن تطوير البراميل المتبقية فقط عندما تكون مجدية تجارياً، حيث يبقى بحر الشمال أصلاً استراتيجياً، لكن مستقبله مرهون بالتخطيط الاقتصادي المدروس لا بردود الفعل العاجلة. ويبرز النموذج النرويجي كمثال مهم لأن النرويج تشارك المملكة المتحدة في استغلال حقول النفط والغاز نفسها في بحر الشمال، حيث تمتد بعض هذه الحقول عبر الجرف القاري لكل من البلدين وفق اتفاقيات ترسيم الحدود التي تمنح كل طرف حقوقه النسبية في الإنتاج. وقد مكّن هذا النموذج النرويج، من خلال مشاركة الدولة المباشرة عبر شركة “إكوينور” والانضباط المالي الصارم، من تحويل هذه الموارد المشتركة إلى قيمة وطنية مستدامة، وهو ما يمكن أن تستفيد منه المملكة المتحدة.
خلاصة القول: لا يزال نفط بحر الشمال يملك قيمة اقتصادية، لكن استدامة هذه القيمة تعتمد على إدارة اقتصادية ذكية لا على الاندفاع نحو الاستخراج السريع. في ظل أسعار سواق النفط الحالية، قد لا يكون الكثير من البراميل المتبقية مجدية اقتصادياً إلا عند مستويات أسعار أعلى بكثير من المستويات الحالية عند 70 دولار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال