الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عصر تتسارع فيه وتيرة التحول الرقمي وتتصاعد فيه الضغوط على المؤسسات لإثبات الجدوى من استثماراتها في رأس المال البشري، لم يعد التعليم التنفيذي رفاهية أو مجرد نشاط تدريبي موسمي. بل أصبح ضرورة استراتيجية لضمان جاهزية القيادات، وتعزيز مرونة المنظمات، وتحقيق القيمة المضافة من الموارد البشرية. ومع هذه الضرورة، يظهر تحدٍّ كبير: كيف نقيس ما لا يُرى؟ وكيف نثبت أثر البرامج التي لا تظهر نتائجها فورًا، ولكن تُثمر لاحقًا على هيئة تحولات ذهنية وسلوكية متراكمة؟
هذا السؤال يفتح الباب لمفهوم “الأثر غير الملموس” في التعليم التنفيذي. إنه ذلك النوع من الأثر الذي لا يُختصر في إحصائية أو رسم بياني فحسب، ولا يُعبّر عنه بتقارير رضا فورية، بل يتجلى في كيفية تغيّر طريقة تفكير القائد، وأسلوب اتخاذ قراراته، ومدى تأثيره الإيجابي في فريقه ومؤسسته ومجتمعه. وتُظهر البيانات الحديثة مثل تقرير The Business Research Company لعام 2025 أن المؤسسات التي تستثمر في برامج تعليم تنفيذي تركز على مهارات مثل الذكاء العاطفي والقيادة المرنة والتخطيط الاستراتيجي، تحقق نتائج ملموسة على المدى المتوسط منها ارتفاع معدلات استبقاء الموظفين بنسبة تتراوح بين 12 إلى 18 في المئة، وتحسن أداء الفرق بنسبة تصل إلى 15 في المئة. وتنعكس هذه النتائج على انخفاض التكاليف التشغيلية ورفع العائد من رأس المال البشري، مما يؤكد على وجود العلاقة الوثيقة بين التحول السلوكي والعائد الاقتصادي.
ومع ذلك لا تزال بعض المؤسسات وفقًا لتقرير IMD الصادر في يناير 2025، تركّز في تقييم البرامج على مؤشرات غير كافية مثل عدد ساعات التدريب أو تقييمات المشاركين المباشرة، متجاهلة ما هو أعمق: كالتغيير الفعلي في الممارسة القيادية، وتأثير البرنامج في سلوك الفرد، وفي ثقافة المؤسسة بشكل عام. إن البرامج الفعالة لا تكتفي بمستوى رضاء المشاركين فحسب، بل تصنع تحولات حقيقية تظهر تدريجيًا بعد انتهاء البرنامج، حين يبدأ المتدرب بتطبيق ما اكتسبه في واقعه المهني. ويقدم النموذج الخماسي المستند على منهجية ROI خارطة قياس متكاملة يمكن توظيفها في قياس الأثر الغير ملموس وهو:
ويتضح من هذا النموذج أن القياس لا يتوقف عند ردود الفعل، بل يتدرج نحو تقييم: التعلم (المعارف والمهارات)، والتطبيق (السلوك والممارسة)، والأثر المؤسسي (الأداء والنتائج)، والعائد من الاستثمار (ROI). من المهم أيضا معرفة أن قياس الأثر الغير الملموس يتطلب أدوات نوعية لا تقل أهمية عن المؤشرات الكمية، ولذا يوصي تقرير Oxford Impact Lab بتبني أساليب تقييم تتجاوز الاستبيانات المتعارف عليها. ومن أبرز هذه الأدوات إجراء مقابلات متعمقة مع المشاركين بعد انتهاء البرنامج بمدة، وتحليل التجارب الشخصية التي تعكس لحظات تحول حقيقية في التفكير أو السلوك. كما ينصح أيضا بعقد جلسات جماعية تأملية تعود بالمشاركين إلى التجربة بعد ستة أشهر، وتتيح لهم إعادة تأطير التعلم ضمن سياقهم العملي مما تأملا أوسع وأعمق للأثر. وفي السياق ذاته، من المفيد أيضا تطبيق نموذج (Kirkpatrick) العالمي والذي يُقدّم إطارًا رباعي الأبعاد لفهم الأثر غير الملموس.
في المستوى الأول: يُقاس التطور الفردي ويتجسد في التحول الذهني ونمو المهارات الناعمة كالتعاطف والمرونة، والذكاء القيادي. وهذا النوع من التحول لا يتحقق من المحتوى النظري وحده، بل من خلال التجارب التطبيقية العميقة.
أما المستوى الثاني: فيُعنى بالأثر الجماعي حيث تظهر نتائج البرنامج في شكل تواصل فعال بين أعضاء الفريق، مع تحسن في آليات العمل الجماعي، واتخاذ القرار ضمن بيئة يسودها الاحترام والثقة والانتماء.
أما المستوى الثالث: فهو الأثر المؤسسي ويتجلى في تحسن الأداء الكلي للمنظمة نتيجة تبني سلوكيات قيادية أكثر نضجًا تسهم في ترسيخ ثقافة التعلم المستمر.
وفي المستوى الرابع: يصل الأثر إلى بعده المجتمعي حين تتوسع نتائج البرنامج إلى خارج المؤسسة من خلال مبادرات اجتماعية تكون مدعمة بقيم العدالة والاستدامة والمسؤولية المجتمعية.
وفي مملكتنا الحبيبة حيث تسعى المؤسسات إلى مواءمة برامجها المتنوعة مع مستهدفات رؤية 2030 تظهر أهمية هذا النوع من القياس بوضوح. إذ إن الاستثمار في الإنسان لا يُقاس فقط بمستوى المهارات التي يكتسبها، بل بما يُحدثه من تحولات مستدامة في بيئة العمل والمجتمع. كما أن قياس الأثر الغير ملموس في هذا السياق يمثل أداة استراتيجية لإثبات العائد من البرامج القيادية من حيث تحسين جودة القرارات وتقليل التكاليف غير المباشرة المرتبطة وتحسين السمعة المؤسسية. إن القيادة الحقيقية لا تُبنى على ما هو سهل القياس، بل على الجرأة في التعامل مع ما هو عميق وصعب. ولذا أقترح إعادة تصور التقييم كممارسة تعليمية مستمرة لا تنتهي بتقرير ختامي، بل تبدأ بتجربة وتُستكمل بمجتمع تعلم تشاركي يعود إليه المشاركون بعد أشهر لتحليل الأثر ومشاركة قصص التحول والنجاح وتعديل السلوك. وفي الختام يبقى الأثر غير الملموس حجر الأساس في قياس فعالية التعليم التنفيذي. إذ إنه الأثر الذي يبدأ من الداخل ويمتد إلى المؤسسة والمجتمع. وإذا أردنا أن نصمم برامج قيادية ذات جدوى حقيقية، فعلينا أن نمنح هذا الأثر ما يستحقه من أدوات ونماذج ووقت، وتأمل.
المراجع:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال