الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في نهاية التسعينات، واجهت مدينة صغيرة في شمال جمهورية التشيك تُدعى ليتوميريتسه أزمة سكن حادّة. لم تكن مجرد أزمة أسعار، بل أزمة ثقة في المستقبل السكني. كان الشباب يغادرون إلى العاصمة أو مدن أكبر بحثاً عن سكن يمكن تحمّله، فيما ظلت المدينة تفقد طاقتها وسكّانها القادرين على العطاء. البلديّة لم تكن تملك الموارد الكافية لتشييد مجمعات إسكانية ضخمة، ولا كانت تنتظر حلولاً مركزية من الحكومة. بدلاً من ذلك، فكّرت بطريقة بسيطة، ولكن جذرية: لماذا لا تعيد تعريف التملّك نفسه؟
قررت البلدية تقسيم الأراضي التابعة لها إلى قطع صغيرة مخدومة بالبنية التحتية الأساسية، وطرحتها للمواطنين وفق صيغة غير تقليدية: يمكن لأي عائلة أن تحصل على الأرض مجاناً، بشرط أن تلتزم ببنائها خلال فترة زمنية محددة، وأن تستخدمها فعلياً للسكن. لم يكن الهدف الربح، بل إعادة الحياة للمدينة، وتحقيق استقرار سكني يحفّز بقاء السكان. خلال سنوات قليلة، أُعيد توظيف الأراضي السكنية المهجورة عبر بناء وحدات بمواصفات عملية وتكلفة منخفضة، ما ساهم في رفع معدلات الإشغال، وتنشيط الحركة الاقتصادية محلياً، وتحقيق استقرار سكني فعلي للشرائح الشابة.
هذا النموذج لم يكن مجرّد حلّ إسكاني، بل كان ثورة ناعمة في فهم العقار. لم يكن التملّك مقصوداً بذاته، بل وسيلة لضمان الاستقرار والارتباط بالمكان. في ليتوميريتسه، لم يشترِ السكان الأرض، ولكنهم امتلكوا ما هو أهم: شعور بالانتماء، وحقّ مشروع في الاستقرار، دون أن ينهكهم القرض العقاري أو يُقصيهم السعر المرتفع.
هذا النموذج الملهم يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لنا نحن أيضاً، خصوصاً في مدن سعودية تشهد ضغوطاً على السكن، حيث يمكن تصميم آليات تمليك تُعزز الاستقرار السكني وتضمن في الوقت نفسه جذب الاستثمارات التي تُسهم في التنمية الاقتصادية دون أن تزيح المواطن.
في المقابل، حين نراجع النقاش الحالي في السعودية حول تملّك العقار من قبل غير السعوديين، نجد أنفسنا أمام جدلٍ متكرر: مؤيدون يرون في الخطوة دعماً للاقتصاد، وتعزيزاً للاستثمار، وتحريكاً للركود العقاري، بينما يتحفّظ آخرون بحجج تتعلّق بالأولوية السكنية للمواطن، وبما قد يُحدثه التملك الأجنبي من ضغط على أسعار الأراضي في مدن تشهد أصلاً أزمة معيشية في ملف السكن.
لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في من يتملك، بل في كيف نتعامل مع التملّك نفسه. فهناك فرق هائل بين مستثمر أجنبي يبني مشروعاً فعلياً يضيف قيمة للحي أو المدينة، وبين من يشتري عقاراً ثم يتركه مغلقاً بانتظار ارتفاع الأسعار. كما أن هناك فرقاً بين تملك سكنٍ يُستخدم، وبين تملك أرضٍ تُحتكر لعشر سنوات دون تطوير. المخاوف ليست من الأجنبي في ذاته، بل من تحوّل السوق العقاري إلى سوق مضاربة، حيث تُسجن الأراضي وتُجمّد الأحياء، ويختنق العرض، ثم ترتفع الأسعار، ويصعب على المواطن أن يضع قدماً في أول السلم السكني.
لذلك، لم يعد السؤال: هل نفتح الباب للتملّك الأجنبي؟ بل أصبح الأجدر أن نسأل: ما هي الصيغة المثلى لهذا التملك؟ وكيف نُفعّله بما يخدم الاقتصاد الكلي دون الإضرار بأولويات المواطنين؟ هل يمكن تطوير نماذج تملّك مشروطة بالاستخدام، أو بعقود ذكية تضمن التوازن بين الاستقرار السكني والجاذبية الاستثمارية؟ هل يمكن التفكير بأشكال تعاقدية تتيح للبلديات، كما فعلت ليتوميريتسه، أن تحتفظ بالأرض وتتيح للناس حق استخدامها طويل الأمد؟ هل نعيد هندسة السوق بما يجعل من الأرض أداة تنمية، لا سلعة مضاربة؟
إن العقار ليس فقط استثماراً مالياً، بل أيضاً بنية للعدالة الاجتماعية، وأداة لصياغة المدن والهوية. حين تترك السوق وحدها تتحكم فيه، دون توجيه ذكي أو ضوابط توازن بين المصالح، فإن النتيجة غالباً تكون أسعاراً مرتفعة، واحتكاراً غير منتج، واستقطاباً يهمّش الشرائح الأكثر احتياجاً للسكن. أما حين تُدار السوق برؤية إنسانية واستراتيجية، فإنها تصبح رافعة استقرار وازدهار، لا عبئاً اقتصادياً أو سبباً للتفاوت.
ربما آن الأوان لننظر للعقار كما نظر إليه أهل ليتوميريتسه: كأداة لتحفيز الاستقرار المجتمعي والنمو العمراني، لا كأصل مالي جامد ينتظر التقلبات السعرية. في تلك المدينة، لم يعتمد الحل على المشاريع الضخمة أو الإعلانات الترويجية المكثفة، بل على استراتيجيات عملية تراعي التوازن بين احتياجات السكان وقدرات المدينة.
أداء سوق العقار لا يُقاس بارتفاع الأسعار أو توسع التملّك فحسب، بل بكفاءته في تخصيص الموارد وتحقيق توازن حقيقي بين العرض والطلب. السوق الصحي هو من يُسهم في رفع إنتاجية المدن وتحسين جودة الحياة، لا من يحوّل العقار إلى أداة تخزين للثروة تُخرج الأصول من دورتها الاقتصادية وتقلّل من كفاءة الاستخدام الحضري.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال